الأربعاء، 29 أغسطس 2012

تجربة فريدة من نوعها ..بين جدران أربعة


اليوم .. 
اكتشفت أننى لم أجرب قبلاً ان أٌحبَس بين أربعة جدران حقيقية ...
كنت أخاف التجربة خاصةً مع الكلام السخيف الذى كان يردده مدرسو المدرسة زمان عن حجرة الفئران الضيقة التى لن تجد فيها موضعاً لقدمك حتى ..وتحاصرك الفئران فيها وتقفز عليك وتقتلع عينيك فى ضراوة أسود كالاهارى ..بعيداً عن كل هذا السخف .. أحب أن أحكى لك تجربتى المتواضعة فى هذا الصدد ..
اليوم - 29/8/2012 - استيقظت فى الثامنة صباحاً -دى مرة من المرات النادرة اللى بانام فيها بدرى وباصحى فيها بدرى- ..كل المخلوقات اللى ساكنة معايا ف البيت كانوا نايمين .. دخلت الحمام وغسلت وشى واتوضيت وكده .. ثم ماذا ؟؟ .. ثم أن الباب لا يُفتَح !! 
القِفل (مزرجن) ويحتاج إلى زيت من نوع محترم وهايبقى أحسن لو كان مستورد عشان يتفتح .. وطبعاً من الغير ممكن أنى أحضر زيت من هذا النوع فى بلد محدودة زى محروستنا .. وبعدين هاجيب منين أنا زيت أزيت بيه الباب وانا محبوسة جوه .. المهم أننى استخدمت كل قوتى .. وعضلاتى المتواضعة التى كونتها من لعب الكونج فو .. واشتغلت ضربات روسية على أم الباب اللى مش راضى يتفتح ده .. حتى أننى دهنت يدى بالـ(برسيل) .. طبعاً هذا شئ فظيع جداً -دهن اليد بالبرسيل- ..حقيقةً لا أعرف العِبرة من دهن اليد بالبرسيل ولا لماذا فعلت ذلك .. ولكننى أردت إشعار نفسى بأنى فتاة تعرف ما يجب عمله لتخرج من هنا .. ربما لأجعل يدى (تنشف) قليلاً وربما حينها أنجح فى فتح الباب ..لا أعرف حقيقة .. 
ثم أننى وجدت مفكاً أصفر اللون عامل زى البتاعة كده ..مفك صلعوك-لو صح التعبير- وأخذت أنهال به على القِفل العنيد ضرباً .. حتى أننى لأظن أنى أخرجت كل مخزون ساديتى وماسوشيتى على ذلك القِفل ابن الـ***** ده !!
ألا تظننون أننى أحتاج إلى قدر كبير جداً جداً جداً من النحس حتى لا يستيقظ أهل البيت على مثل هذه الضجة التى أظن أن مومياء تحتمس الأول قد استيقظت هناك فى وادى الملوك والملكات عليها ؟؟
قضيت حوالى نصف الساعة ..أتخبط هنا وهناك ..أجرب كل الوسائل -السخيف منها والقوى- فى النهاية استيقظت أمى -بمعجزة ما- وبدأت تسألنى : "هو فيه ايه ؟؟!"
فبدأت أشرح لها شرحاً وافياً من وراء الباب الصامد أمام ركلاتى المرتجلة .. وأخذت تقول لى أشياءاً على غرار : "نشفى ايدك..اعملى اى حاجة بالمفك اللى عندك .. جمدى ايدك شوية .. فين القوة ؟!! "
وهنا يجب أن أقول ان هناك شباك صغير مشترك بين الحمام والمطبخ .. فتحة صغيرة مشتركة بينهما .. لذا لم أجد بداً من خوض هذه المغامرة ..
"ماما .. افتحى الشباك .."
"انتى اتجنننتى ؟؟ .. شباك ايه بس  ؟.. جمدى ايدك شوية بس .. "
"مفيش فايدة كده .. هو مش هايتفتح مهما عملنا .. روحى بس افتحى الشباك وانا هاتصرف وهاتكفل بالباقى ."
فى النهاية رضخت أمى .. إذ أنها ادركت أنه ما من فائدة للعبث السيزييفى اللى احنا كنا شغالين فيه ده ..
"فتحته ..ورينى هاتعملى ايه بقى ..هاتموتى وتكسرى رقبتك ف الآخر"
يا سلاااااام  .. (هاموت وهاكسر رقبتى) ..تعبير جميل .. لو مت ..فلن يشكل كسر رقبتى فارقاً كبيراً ..فالموتى لا يهتمون كثيراً بهذه التفاصيل !! 
هى محاولة مرتجلة جداً لواحدة محبوسة بين أربعة جدران .. لن أنتظر عربة المطافئ حتى تأتى وتنتشلنى من بين الجدران الأربعة .. سأرتجل وأتصرف بنفسى !!
المهم أننى وقفت على طبق غسيل كده كان مليان على آخره غسيل .. وقفت فوقه ..مش مهم بقى الغسيل يبقى يتغسل بعدين .. ثم أننى تسلقت منه إلى الغسالة .. وقفت فوق الغسالة ..الشباك ذو الموضع العالى أمامى مباشرة .. سأقفز فقط لأقف على قطعة الرخام بداخله التى تصلح للوقوف فوقهاعليها .. تشبثت بماسورة مياه شكلها لا يسر الناظرين و ...
قفزت !! 
تمسكت سريعاً ووقفت على الرخامة ..حشرت جذعى الناحل داخل الشباك الصغير .. كنت نصف جالسة نصف واقفة .. أرى المطبخ ..قفزة محسوبة أخرى وسأصل لأقف على الفريزر ..
ثم .. 
تباً ، لا أستطيع القفز ..لست أملك دفعاً كافياً .. أى أننى كالسهم الموضوع فى قوس غير مشدود ..كيف لى أن أنطلق وقوسى غير مشدود ؟؟ هه ؟؟
يجب إذن أن ألقى بجذعى إلى الوراء ..ثم أقفز ..أرى أمى فى المطبخ ترمق كل هذا وتكاد تطلب المطافئ فعلاً .. 
دفعت بجذعى إلى الخلف وكدت أقع وأدق عنقى لولا أن تمسكت بتلك الماسورة التى أدين لها بالكثير حقيقةً .. ثم ..
هوبااااااا.. قفزة محسوبة ..
هأنذا فوق الفريزر .. هوف ..سوف أقفز من جديد حتى أقف على ذلك الكرسى الخشبى .. فى تلك اللحظة فهمت فعلاً ما هو شعور (القفز فى الهواء مترين) !! 
المهم أننى أخيراً وقفت على أرض صلبة واكتفيت من القفز بقية حياتى .. لا أريد أن اسمع كلمة (قفز) لمدة لا تزيد عن العشرين عام ..قفزت  اليوم من المرات حتى شعرت أننى كأى صرصور (فور أُعلوز) يحترم صرصوريته !! 
فليذهب قفل الحمام إلى الجحيم .. سأهشم هذا الباب على رأس من صنعوه .. منعتنى أمى بصعوبة من تهشيم الباب ..وقررت حل الموضوع بعقلانية وهدوء ..أحضرت مفكاً وفتحت الباب فى عشر دقائق .. ارتفع الدم إلى نافوخى فى هذه اللحظة 
"ماما.. ماكنتى تعملى كده من الأول بدل المغامرة الوايلد دى !! "
ثم نسيت الأمر برمته وذهبت لأقرأ !! 
ولكن لا أخفى عليكم سراً ..كنت منذ طفولتى أحلم بتسلق هذا الشباك .. حلم طفولى كده ..من المطبخ إلى الحمام ومن الحمام إلى المطبخ 
تمنيت أن لو قالت لى أمى : "روحى اغسلى ايديكى قبل الأكل" أن أقفز منه إلى الحمام مباشرة ثم أغسل يدى وأقفز من جديد إلى المطبخ مباشرة ..
فقط الأمر يوفر لك قدراً صغيراً من الحرية فى عالم كعالمنا .. وكأنه انتقال آنى مثلاً أو جهاز انتقال بين الأبعاد أو حتى صاروخ عابر للقارات ..لا يهم ..اطلق على الأمر ما تتمنى من الأسماء !! 
كانت تلك تجربة 
تجربة فريدة من نوعها :))

قطع وتقطيع

 الصورة بالأعلى مالهاش علاقة بأى حاجه فى الحياة .. ودورها كله فى الحياة متمثل إنها تؤدى دورها على أكمل وجه وتبقى صورة .. مش أكتر !! 
..
..

أسمر /صارم ..
تحس جنبه بالتقلص -سواء فى حجمك أو فى معدتك- ..وإنك تافه أوى وصغير أوى ..والحاجة الوحيد اللى هاتمنعه من تدميرك والدوس عليك هى :إنك تافه وصغير أكتر من اللازم !!
ولما يفتح شدقيه عشان يتكلم ..تشعر إنه بعد شوية هايصيح قائلاً فى حماسة : "هايل هتلر !! "
أو هو مش محتاج يقولها لأنها المفروض تتقاله ..مش هو اللى يقولها !!

..
كان بيحركهم ..وهم كانوا عارفين إنه بيفعل .. وعارفين إنهم ماريونيت خيوطها بين ايديه ..
 بياض عينيه كان فظيع .. من النوع اللى بيشعرك بإن بياض عينيك لونه أسود !! 
ورغم كده كان عامل زى (عطيل) .. هو شبه (عطيل) أصلاً .. وأكيد كان عنده (ديدمونة) .. وديدمونته المزعومة دى كانت عاملة زى المنظومة الكاملة .. ماكانتش ديدمونة طيبة بل كانت تستغل طيبة (عطيل)-صاحبنا- ..
ثم إنها كانت بتتلقى معاملة خاصة يحسدها عليها جنوده .. بل يحسده  جنوده عليها -ديدمونة- 
ثم ان عطيل أحمق 
ثم ان ديدمونة كالمنظومة الكاملة 
ثم ان أختى عايزة اللاب توب .. 
ثم انى .... 
!!

الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

قرينتى :) ..


 انتِ شمعة .. كنتِ دوماً شمعة وأنا لم انتبه لذلك إلا اليوم ..ليتنى فعلت منذ بدأت البشرية !! 
                                           * * * * * * * * *

(ولما تتلاقى الوشوش مرتين .. مابيتلاقوش يوم اللقا التانى )

                                    * * * * * * * * * * * * * 
 "انا اسمى فيروز .. انتى اسمك ... "
"رانيا .. رانيا فهمى "
وكان ذلك اللقاء .. اللقاء الأول ... 
طابور المدرسة المزدحم الذى يتميز عن باقى الطوابير بتلك الرائحة العفنة التى لا أعرف لها مصدراً .. ربما كان هذا فأراً ميتاً خنقه تلاميذ (كى جى 1) .. أو حتى جثة خنزير متعفن .. المهم أن هناك رائحة مقرفة تأتى من مكان ما فى طابورنا يا سادة !! 
المدرس الذى يقدم الطابور يحاول أن يخدع نفسه ..والغريب أن خداعه وصل لدرجة أنه صدق نفسه وبدأ فى إلقاء خطبة عن إنجازات جيش النمل الأحمر فى غابات الأمازون !! 
بعد أمد طويل .. قرر ذلك الرجل أن يخرس .. ولكنه لم يخل سبيلنا بالطبع .. وإلا فلمَ استحق لقب (مدرس) ؟؟!
"كله لازم يغنى النشيد .. دى تقاليد يا حلالـيـ ... قصدى يا أولادى الحلوين .. عشان كده عايز اسمع أعلى صوت .. فاهمين ؟؟!"
وتبدأ الموسيقى الجنائزية الكئيبة ، تخرج  من مكبر صوت فى مكان ما ...
يستغل الرجل سذاجة أطفال الروضة وأطفال الأول الإبتدائى لكى يجعلهم ينشدون بصوت أعلى .. حتى تكتمل خدعته ..ويوهمنا أن هذا ليس وهماً .. ما هو مقتنع به ليس وهماً لخيال مريض !! ..
المهم أنه كان يستغل تلك الرغبة الطفولية لدي الأطفال فى التفوق فى أى شئ -حتى لو كان شيئاً كالتمرغ فى الطين- ويجعل يقول فى شراسة كأى جنرال نازى : 
"أعلى .. هو ده أعلى صوت ؟؟ .. مش سامع حاجة .. عايز الأرض تتهز .. عايزها تتهززززززز !! "
وكأنه يريد الأطفال أن يتخلوا عن آدميتهم ويتحولون إلى قطيع غاضب من الأفيال الأفريقية فقط لأجل سواد عينيه !! 
وسط كل هذا .. كنت أنا هناك .. 
تلميذة فى الرابع الإبتدائى .. تسع سنوات .. ولكنى حينها كنت قد كونت فكرة لا بأس بها عن الحياة : (البشر حلاليف تبغى الوصول لبركة الطين !! ) ..كانت هذه هى نظريتى المرتجلة التى كنت حينها أراها نظرية لا تختلف كثيراً عن الـ (إنفجار العظيم) ..
كنا نقف صفوفاً فى الطابور .. صفاً لفصل 4/6 -فصلى- .. والصف المجاور هو فصل 4/5 -فصلها- 
كان شعرها بنياً جميلاً ..والأجمل أنها لم تكن تغرقه بمثبتات الشعر اللعينة التى تجيد وضعها اى فتاة تظن انها تتأنق وتجعل الشعر يلمع فى الشمس حتى ليعمى بريقه بصرك ويجعلك ضفدعاً مشلولاً !!
ترتدى ذلك القميص الأزرق الفاتح وجونلة كحلية .. لبس كئيب كما لاحظتم ..ولكنه كان يظهرها وكأنها فى أبهى حللها .. 
تعرفت إليها فى الطابور .. كانت إجتماعية كما هو واضح.. لا تترك فرصة للتعارف إلا واقتنصتها كأى قناص مكلف بقتل رئيس الولايات المتحدة !!
أما أنا فكنت شيئاً صغيراً خجولاً .. لا أريد أن أكشف عن مواهبى أو أفكارى أو عن أى شئ .. جل ما أريده هو أن أترك وشأنى ...
"انا اسمى فيروز .. فيروز خالد ..انتى اسمك .... "
"رانيا .. رانيا فهمى !! "
ثم دار بيننا حديث قصير . موضوع ما من تلك المواضيع التى يجيد الأطفال الحديث عنها .. مثل : (انا عندى 10 سنين ومع كده انا فى 4 ابتدائى) ..أو (أنا أكبر منكوا كلكوا أصلاً ) أو (أنا بارجح إن طولى هايوصل لـ 4 أمتار عشان أنا دخلت سنة 4 !! ) إلى آخر هذا الهراء الطفولى -مش موضوعنا- 
ثم أخيراً تم العفو عنا .. فكدت حينها أسجد شكراً وزلغى .. لقد تركنا نذهب !! 
ثم أننى أحياناً كنت ألتقى بها فى الـ (فسحة) .. تلك الكلمة السرمدية العميقة التى تهم أى طالب يحترم نفسه أكثر من الذهاب لرحلة إلى مركز الأرض ..
حينها كانت صديقة لفتاة أخرى ،غيرى..وكانت تتراءى لى أحياناً تلميحات بأنها تكرهنى .. كانتا -هى والفتاة الأخرى- يتهكمن أحياناً بشدة علىَّ .باعتبارى الفتاة الخجول المنقعصة عن العالم الخارجى فى قوقعتها المحرابية !! 
كانتا -هى والفتاة الأخرى- من الطراز المنطلق الذى كما قلت آنفة (لا يترك فرصة للتعارف إلا ويقتنصها) .. واعبرتهما متغطرسات لا أكثر ولا أقل .. (روشات) كما كنت أطلق عليهما وقتها .. ولكنى -وهذا هو الغريب- كنت أشعر نحوها بنوع غريب من الـ .. الـ .. الدفئ ممكن .. أو حاجه حلوة مش عايزة أتخلى عنها .. حاجة حسيت بيها ومش عايزاها تخلص أو تختفى !! 
استمر الوضع على هذا الحال .. فتاة متفوقة -بس مش لدرجة الدَح يعنى- خجول لا تدرى شيئاً  ولا تعرف عن العالم أكثر من (رويات مصرية للجيب) وروايات (صرخة الرعب) .. وفتاة منفتحة تعرف ما تريد وتنفذه بوسائلها إن لم تتكفل لها الظروف بتنفيذه ..تعترض إن لم يعجبها (الشئ) .. وتبدى إعجابها إن أعجبها (الشئ) .. 
3 سنوات مرت 
12 سنة كان سننا حينها ...
على الأقل كان هذا هو سنى ..أو تقريباً كنت فى الـ(الثانية عشر إلَّا ثلاثة أشهر) .. اما هى فكان عمرها بالضبط اثنى عشر عاما وثلاثة أشهر ... تكبرنى بستة أشهر كما هو واضح !!
فى أول يوم فى الدراسة حينئذ كان الإرتكاب صفة مشتركة بيننا جميعاً ...
مرحلة جديدة .. سن جديدة .. الرقم واحد فى (11) تغير ليصبح اثنين فى (12) ..
أرشدتنى واحدة من تلك المشرفات المتناثرات فى الدور اللاتى لا عمل لهن إلا التلويح بأيديهن فى وجوه البشر ولا بأس ببعض الـ(ردح) أيضاً ..المهم أنها ارشدتنى لفصلى ..
1/6 
أما هى فمن المفترض بها أن تكون فى 1/5 .. هذا هو الطبيعى .. بل كان هذا هو ناموس الحياة الذى لا يستطيع أن يخرقه اياً كان ..
ولكن من قال أن هناك من البشر من ليس وحشاً كاسراً قادراً على فعل وخرق أى شئ ؟؟! 
دخلت لفصلى -ولدهشتى- وجدتها هناك ..جالسة فى الصف الأول ..الديسك الثانى ..بجانب فتاة تدعى (ندى) .. و كانت .....
كانت تبكى !! 
فى البداية حاولت ألا أنظر إليها .. حاولت ألا اتساءل عن السبب الذى دفع تلك الفتاة التى غرست جذور سطوتها فى الأرض فأبت إلا الصمود للبكاء ..
فى النهاية استسلمت .. كان هناك مكاناً واحداًً فقط فارغاً فى الفصل كله بعدما امتلأ بحاجزى الأماكن الذين ينتظرون على باب المدرسة منذ الساعة الرابعة فجراً وبعدما أتيت أنا متأخرةً -كالعادة فى الحقيقة- .. المكان الشاغر الوحيد كان الديسك الأخير الصف الثالث على اليسار بمحاذاة الحائط الأيسر .. بجانب فتاة تدعى (اشرقت) .. أشرقت كانت مجرد فتاة أخرى .. أعنى أنها لم تتميز بشئ إلا بأن شعرها كان أصفر تقريباً ..أصفر قاتم وعينيها خضراوتان .. أى أن الفتيان كانوا يتصارعون عليها وكأنها ليست إلا قطعة لحم أُلقيت إلى ذئاب القويوط الجائعة !!  
المهم أننى استسلمت وبدأت اسأل (أشرقت) : "هى ليه بتعيط ؟؟! "
فتنهدت أشرقت مستمتعة بجهلى ..وأخذت تستمتع بتأدية دورها كـ (عالمة ببواطن الأمور) .. تباً ..ليس هذا وقت الهراء !! 
وفى النهاية تكرمت مشكورة وحكت لى الموضوع : 
"أصل فى اعدادى .. هم مش عايزين شوشرة وشغب .. عشان كده بيفصلوا الأصحاب -اللى هم أنتيم أوى- عن بعض .. وهى انفصلت عن صاحبتها ..وجت فصلنا هنا .. عشان كده بتعيط ..!! "
ليست هذه هى الصيغة التى قالت بها الأمر ولكنها كانت بهذا المعنى يعنى ..
المهم أننى صُعقت .. كل هذا .. من أجل صديقتها .. صديقتها التى كانت تعبث فى الخارج مع صديقات أخريات .. فقط تأتى لتقوم ببعض الـ(طبطبة) على صاحبتها ..وتؤدى دورها حتى لا تقال عنها كلمة كده ولا كده .. تكون عملت اللى عليها يعنى ..تأدية واجب مش أكتر .. وبعدين الحياة هاتسير والعجلات هاتمشى .. بها أو بدونها .. الحياة ماشية وإشطة !! 
وبمرور أسبوع لم تضع فيه صاحبتنا أى وقت فى فعل أى شئ إلا البكاء .. عرضت علىَّ (ندى) -الفتاة التى تجلس بجانب صاحبتنا- أن نبادل الأمكنة .. أى أنها ستأخذ مكانى بجانب أشرقت .. وانا سآخذ مكانها .. اعترضت فى البداية لأن صاحبتنا -كما تعرفون- كانت تتنمر علىَّ منذ ثلاث سنوات .. ولكنى وجدتنى فى النهاية أقبل بالوضع . ولكم أن تخمنوا سبب هذا العرض المرتجل .. لم تكن ندى تريد أكثر من فتاة تجلس بجانبها لتكون صديقتها وتتحدث معها أثناء الحصص حتى يطردهما المدرس أو (يطفش) من المدرسة .لا فتاة تبكى صباحاً وظهراً وعصراً ولا تنبس ببنت شفة ...
..
تعارف من جديد ...
 ..
أحضرت شنطتى وذهبت وجلست بجانبها دون مقدمات .. أما هى فلم تكلف نفسها أصلاً وتلتفت على الأقل .. حتى لتنظر إلى تلك المخلوقة التى جاءت بدون دعوة لتجلس بجانبها  ..
فى النهاية .. نظرت إلى بعينين احمرتا من العَبَرات .. وقالت وكأنها لم تدرك الدنيا منذ قرون :
"وامال فين ندى؟؟!"
"ندى هاتقعد جنب أشرقت..."
ولمعلوماتكم ..ندى كانت مع صاحبتنا فى الفصل فى الصف الثالث الإبتدائى ..فكانت تحمل نحوها نوعاً من الألفة .. كالتى تحملها لصديق طفولتك ..فأبدت امتعاضاً نحو ما حدث وفى النهاية سكتت .. سكتت فعادت تبكى عندما علمت أنه لا جدوى !! 
عندما هدأت .. بدأنا نتحدث .. لا أذكر ذلك الحوار جيداً .. ذاكرتى لا تسعفنى جداً ..حسناً سأقول لك أنَّى لك أن تعرف التلخيص الكامل لطابع هذا الحديث المنسى .. 
تخيل حديثاً بين فتاة خجول وفتاة كانت تتهكم عليها فى الطفولة .. 
هكذا كان حديثنا .. أذكر أننا تشجارنا على شئ ما .. ولكنه لم يكن شجاراً بمعنى الشجار .. بل كان أقرب إلى عبث أو دعابة ثقيلة ننسجها نحن الإثنتين ..
وبانتهاء ذلك الإسبوع .. اكتشفت أنها الجزء المفقود .. 
الجزء المفقود من روحى !! 
لا أعرف متى ولا كيف باتت صديقتى المفضلة .. بل قرينتى .. الجزء المقتطع من روحى ..
وكنت أشعر حيناً أننى/أنها نطبق هذا المثل : 1=1+1  
وأدركت أن هذه الفتاة هى -ولا شك- صديقة عمرى ...
عندما أريد النطق بكلمة فأنطق بأول كلمة منها حتى أجدها تستكمل الجملة من عقلها ..وكأنها استخلصت ما أريد قوله وتشربته من بين تلك الفراغات فى ذرات الكون ..
وعندما نتحدث .. وتنوى أنت ان تستمع لحديثنا ..فيجب عليك أن تتأكد من أنك تتمتع بضغط دم ممتاز .. وإلا ستصاب بشلل رعاش ..لأنك ببساطة لن تفهم حرفاً !! 
..
فيروزتى :))
مشروع استئناس الغوريللات/ويل يا ويل /فصل البنات/ذراع مشعرة/فودكا/بطاطس بالمايونيز/فيروزات/صوابع شكلها غريب/داست جاموسة على قلبه/ليلة سقوط البنطلون/الشيخ الحكيم/أمير الشعراء ولَّا أمير البحار/الرجال أوغاد/ماجى هبلة/رفعت وسيم/هاتى كل القصص اللى عندك/يا فيروز/نعم؟/على فكرة انتى فيروز !! 
انتى فيروز 
وأنا رانيا 
وأنا باحبك 
:)
دمتِ بخير يا صديقة العمر D: 
                                       * * * * * * * * * * 
لا تبك يا صغيرى ،لا انظر نحو السماء .. من قلبك الحرير لا لم تقطع الرجاء :) 


الاثنين، 27 أغسطس 2012

فـكلـنا يـــعود





                                                                          * * * * * * * * * * * * * * 
- هل سنعود ؟؟! 
- نعم ، بكل تأكيد .. فكلنا يعود .. نذهب إلى أقطار الأرض شرقها وغربها .. نرى الموت فى أعين أطفال الصومال .. ونرى الأذرع الغضة البضة  فى أمريكا ..وبعد كل هذا .. نعود من جديد .. نعم سنعود يا عزيزى !! 
        
                                                                               ******
المدرسة ؟؟! 
لم أدقق فى تلك الكلمة من قبل ..غريب فعلاً .. إحدى عشر سنة ولم أنظر بل ولم ألق بالاً مرة إلى تلك الـ (البتاعة) -سواء المبنى المادى أو الكلمة بروحها- .. 
لا، لم تكن المرات التى كنت أكتب فيها عن المدرسة فى موضوع التعبير على أنها  : (درة الزمان) ،(مركز المجد وقلب الحضارة)،(ناقوس حكمة ما بعدها حكمة) ،(تلقى علينا بالسحر) ..والجملة الأخير (تلقى علينا بالسحر) كانت تهكماً صغيراً أدسه دساً عن عمد فى الموضوع أيام ابتدائى  .. فغالباً هذا السحر آتٍ من عصا ساحرة شريرة تتناول على الإفطار شوربة الأطفال بكوارع الضفادع -لو كانت هذه الأخيرة تملك كوارع!!- 
لم يكن هذا تأملاً فى معناها أو محاولة سرمدية لفهم مغزاها .. إنما هى فقط محاولة بائسة من تلميذة ابتدائى تعسة تشق طريقها فى صعوبة لتحصل على الدرجة النهائية فى موضوع التعبير !! 
غرضها ؟؟! 
لا يا جدع .. لا 
قطعت التساؤل عن غرضها منذ فترة ..فإما أننى سأتلقى رداً مفحماً حمضاناً له وزن عملاق ثقيل على اللسان ..حضره مدرس لغة عربيه مخضرم ليفحم به أى طالبة إعدادية مراهقة غريرة مثلى ..
وإما أننى سأتلقى (شخطة) ذات أداء عالى من حنجرة أوبرالية .. أو اننى سأتلقى صفعة لا بأس بها من يد خشنة كيد (محمد على كلاى) على قفاى  . أو أنال قرصة جميلة تستحق التصفيق والإعجاب فى أذنى .. ليست قرصة بل هى إعتصار للأذن حتى تخرج عصارتها التى سيستخدمها ذلك المدرس فى صنع عصير الفراولة لأولاده  !! 
 كل هذا لأننى : (بتسألى أسئلة غريبة جداً ومش منطقية زيك كده .. اسئلة ماتتسئلش .. خشى فصلك يلا واتعلمى واسكتى !!)
 يا سلااااااااااام ؟؟! 
هكذاا فقط ؟؟! 
سهل جداً .. لما كنت عانيت .. لما عانى أحد فى الحقيقة ..
إذن أى تعليم هذا الذى تتحدثون عنه يا جدعان ؟؟ .. فهموووووووونى !! 
وأى مستقبل هذا الذى تنتظرونه وتقضمون أظافركم إنتظاراً له ؟؟! .. فهموووووووووونى !!
آه نسيت، (الفهم) هذه كلمة (يَع)  .. دعك من أنها (حرام) .. 
آسفة .. اعذروا سفاهتى وكلامى (الدبش) هذا .. اعذروا حماقتى وغبائى المستحكم .. لم أعد لبقة جداًَ هذه الأيام .. اتساءل لماذا .. لا أعرف لماذا .. هل تعرفون أنتم ؟؟! 
                                                             ************
"غضبة .. ثم ملل !! "
                                  
                                                       *******************
"عشان أشوف صحابى"
"لقا الأصحاب" 
"صحابى أهم عندى من مليون اجازة هايفة !! "

نعم .. نعم .. أسمعها كثيراً.. انت أيضاً تسمعها كثيراً ..
استفتاء صغير قمت به أكد لى صدق اعتقادى !! 
(عشان صحابى)  .. كصدى الصوت تتردد على مليون  شفة -شفاه حمراء وبيضاء وشفاه مصابة بفقر الدم!! - ..فى ملحمة أبدية كعبث (سيزييف) تُكتَب .. تتكرر .. لا تمل .. لا تكل .. تصر على استفزازى فى إصرار(سيزييفى) عجيب !! 
الحقيقة التعسة ليست (عشان أصحابى) .. فصحابك هؤلاء الذين تتحجج بهم الحجج .. يمكن ملاقاتهم فى أى مكان آخر ..حتى لو ذهبتم معاً للعب فى بركة طين كالحلاليف .. على الأقل ستكونون سعداء .. أم أنكم تحبون اللقاء يظللكم جناح (القرف) .أعنى الـ(بتاعة) التى بدورها تعنى (المدرسة) !! 
ظللت أبحث الأسباب .. أسبر أغوار التلاميذ محاولةً جمع شتات الحقيقة .. فى النهاية توصلت لنظرية لا بأس بها كنظرية :
(عشان صحابى) ..يقولونها لأنهم لا يجدون سبباً آخر ...
أو بالأحرى أنه  ليس هناك من سبب آخر أصلاً 
يقولونها لأنه ليس هناك من سبب للذهاب إلا آبائهم !! 
فإما الذهاب أو المشنقة ..أو الساطور على أقل تقدير !! :S 
يقولونها حتى لا يشعروا بذلك الشعور الذى يشعرك بأنك مصاب بقرحة معدية ممتازة ذات عنفوان شرس ..شعور أنك (عبد المأمور ) !! 
تلك الفتاة تتفاخر بأن أباها (كووووول) ..لا يلتفت إلى تلك الأشياء السخيفة التى يدعونها بإسم غريب جداً وهو : (حرام) ..ترى ماذا تعنى هذه الـ (حرام) ؟؟
وذلك الفتى الذى يقول وقد نفش صدره كأى أصلة فى وضع هجوم أن أباه أعطاه سيارته ليذهب بها إلى درس الرياضيات .. فسافر بها إلى الإسكندرية وركبت معه فتاتان فى المقعد الخلفى ..وقد سكبت إحداهما عصير (كبد الحوت) على المقعد الخلفى ..ولكن أباه الأبله لم يقل شيئاً طبعا بل ولن يقول شيئاً ..بل -والألعن من هذا- لم يعرف الحقيقة كاملةً ..وتكفل بعملية التنظيف ..وبدأ يفخر بابنه الذة يتناول مثل تلك المشروبات الصحية !! 
نستخلص من كل هذا النقاش المحتدم نقطتين حسبما أظن يعنى .. يمكن أكثر من اثنتين .. ولكن لطالما كان (إثنان) رقماً يبعث عن التفاؤل : 
  1. عندما ترى يا مربى الأجيال ..تلميذاً يقول مثل هذا الكلام .. فلا تتعجبن يا صديقى ..فمن المدرسة القدوة الحسنة .. ومنها يأتون بكل الـ (بلاوى) التى تعلموها .. وإلا -بذكائك الخارق- فمن أين تأتى إن لم تكن من منزله الثانى؟!!
     يقول الطالب أو الطالبة مثل هذا الكلام الأخرق فقط ليديروا ظهورنا عن حقيقة أعظم .. أنهم تحت سيطرة آبائهم بالكامل فى موضوع المدرسة هذا .. يتحدثون عن حريتهم الغير مشروطة التى أتاحها لهم آباؤهم .. ليغلقوا أعيننا عن تلك الحقيقة : ( المدرسة نبراس العلم يا بنى .. ولإن لم تذهب .. لأذبحنك وأقطعنك بساطور ريفى أصلى وأستأجر طائرة وأرمى كل قطعة فى بلد من بلدان العالم ..فتكون (أوزوريس) آخر - ولكن من النوع الحديث الغر المراهق!!-
  2. رغم كل ما يتحدث عنده طلابنا ..فهم مجبرون على الذهاب .. هذا شئ مفروغ منه أصلاً !!
    الشخطة تكفى للفتى .. والحبس فى حجرة مليئة بأسود كالاهارى ستتكفل بالفتيات -لأن فتيات اليوم لم يعدن مثلما كُن!!- ..

    أنا فخورة ..

    فقد كشفنا سراً مطلسماً ملغزاً .. وعرفنا ما وراء تلك الجملة (عشان صحابى)

    ولهذا يقولون (عشان صحابى) و (صحابى اغلى من مليون اجازة ) وإلى آخر هذا الهراء ..

    "عبد المأمور؟؟ .. ها ها ها ..مين اللى جابلك سيرة الكلام الفارغ ده ؟؟! ..تلاقيه عمرو اللى ليقوللك كلام زى كده..جاتك البلا انت وعمرو ..يخرب بيوتكوا كلكو مليتوا البلد يا ولاد الـ ...... (شتيمة تخدش حياء القارئ) .. طب شفت لما انا ركبت عربية أمى وخبطتها فى الرصيف ف جنبها اليمين ؟؟ .. انا كده عبد مأمور ؟؟ هه ؟؟ انا ؟؟! "

    ..

    لا داعى للإنكار أعزائى .!!

    لا يوجد له من داعٍ    !!

    ..

    و ....

    يا هناه .يا هناه اللى يتعلم عندنا !!

    ..

السبت، 25 أغسطس 2012

للأبد ؟؟!




حينما قالت لى حنان أن أذهب لمنزلها لمراجعة الرياضيات – مع مدرسٍ ما مجهول الهويه - ..لم أكن أعرف أننى بصدد أخذ خطوه مصيريه جداً فى حياتى !!
حينما خرجت من باب منزلى بعدما أخذت النقود من أمى دامعة العينين من تقشير البصل .. ومشيت بخطوات متثاقله كجواد جريح إلى بيت حنان ..لم أكن أعرف أن هناك – فى منزلها – أكثر من مجرد معادلات جبريه مطلسمه ..لا تستطيع أبداً معرفة نهايتها كملحمة جلجاميش !!
فتحت لى حنان الباب .. والتقت عينانا .. ففهمت على الفور ما تبغى قوله
"اتأخرتى ليه يا عبير بس ؟؟! ..المستر هنا من ربع ساعه تقريباً !!"
قالتها هامسه .. فقلت هامسه أيضاً : " آسفه يا حنان .. هاتدخلينى ولا ايه ؟؟!"
تنحت حنان لتفسح لى المكان لأدخل
فى البدايه .. لم أتبين ما هنالك .. ظننت أن ما أراه أمامى هو قطعة من السكر أو البسكويت الحلو وحولها جيش جرار من النمل متباين الأشكال والألوان .. ولكن عندما دققت النظر فى المشهد .. اكتشفت أن قطعة السكر لم تكن إلا منضدة الطعام –السُفره- المسكينه المتهالكه ذات الخشب النخر .. وأن جيش النمل الجرار متباين الأشكال والألوان هذا لم يكن إلا مجموعه من الطلبه –فتيان وفتيات- يمدون رؤوسهم كأى سلحفاة تحترم نفسها .. ليرهفوا أسماعهم لما يقوله حكيم الحكماء –المدرس مجهول الهويه- !!
أبدت حنان شهامه حقيقيه عندما أحضرت لى كرسياً من مكان ما – المكان الذى يحضرون منه الكراسى على ما يبدو .. أياً كان هذا المكان - .. وبمعجزةٍ ما استطاعت حنان العزيزه أن تجد لى مكاناً وسط صفوف النمل لكى أجلس وأستمع لما يقوله حكيم الزمان !!
"الموضوع مش موضوع مذاكره .. الموضوع موضوع ذكاء .. هنا –قالها وهو يشير إلى رأسه- مفيش طبق كبده بالسلطه .. إنما فى مخ !! "
يقولها حكيم الزمان .. فتصدر شهقات الإعجاب وعدم التصديق من صفوف النمل .. حتى أننى توقعت أن يصرخ أحدهم فى إعجاب وهو يضرب الأرض بقدميه ويقول بعينين متسعتين كما كانوا يفعلون فى حفلات أم كلثوم : " يا سلااااااااااام .. أعِد .. أعِد !! "
نظرت إلى الوجوه المنتشره بكثره من حولى كأشجار غابة سافانا كثيفه ...
وجوه ناعمه رقيقه ذات شعر سائح وعطر فائح .. تلف حول اجسادها الفساتين والبلوزات الناعمه ...
ووجوه خشنه ذات شوارب نصف ناميه .. وأصوات تتحسس طريقها فى ممر الرجوله الطويل مستعينة بشمعة البلوغ .
لا شئ يميز أى شخص ها هنا ...
كلهن فتيات تافهات كل واحدة منهن مدة تركيزها تساوى مدة تركيز سنجاب أو تقل عن ذلك ممكن .. كل واحدة منهن مستقبلها معروف لها ومحدد والجميع يعرفه .. غالباً لن يدخلن الجامعه .. ستتزوج كل واحدة منهن – زواج صالونات طبعاً - .. وتجلس فى بيتها تُعد المحشى فى سعادة ورضا غريب عن الحياه ..
وكلهم فتيان يحاولون ألا يبدوا اهتمامهم بهذه الفتاة أو تلك .. وهذا كافٍ جداً لجعل مظهرهم فضيحه وأمرهم واضح ومكشوف ..
هم أيضاً يعرف كل واحد فيهم إلام سينتهى به الأمر ..
 !! إما كزوج لزوجه لا يعرف عنها أكثر من إسمها وإسم أبويها .. وإما كسائق تكتك
كان كل هذا .. هذا الجو المقبض المتضارب .. يبعث رعشة ما فى أوصالى ..ويضفى طابعاً غريباً – ومحبباً – على الذكرى التى ستتكون فى عقلى عن هذه اللحظات ..
"لازم الواحد يعرف ازاى يحل معادلات المقادير الجبريه .. أصل الموضوع مش موضوع حفظ وحَط .. لازم تفهم المعادلات يا ابنى منك ليها !! "
فترتفع صيحات الإستحسان والإعجاب .. يبدو أن معادلات المقادير الجبريه هذه لها تأثير كالسحر فعال فى نفوسهم !!
كان هذا قبل أن يدخل هو ...
ارتفع صوت جرس الباب .. فنظرت حنان فى استعطاف للحكيم . فعفا عنها الحكيم العظيم الرحيم .. وسمح لها بعشر ثوانٍ تفتح فيها الباب ..
فتحت حنان الباب فأصدر صريراً يقشعر الأبدان .. فصدرت عن صفوف النمل أصوات تنم عن الضيق من صوت الصرير المزعج ..
ولكنى لم انتبه اصلاً لذلك الصوت .. بل كان ذلك الصوت مجرد خلفيه للأفكار التى دارب فى عقلى حينها
لم أنتبه له .لأن من الباب دخل مخلوق جدير حقاً بالوصف ..
خطا إلى الداخل بشعره الثائر حول رأسه .. وعيناه البنيتان العسليتان .. والزغب القليل جداً فوق شفته .. وملابسه التى تحمل طابع (البهدله) المحبب .. وكأنه خارج للتو من مشاجره اشترك فيها كل فتوات الحاره مثلاً ..دارت عيناه فى المكان .. وللحظه شعرت بأنه يفكر في نفس ما فكرت فيه عندما دخلت إلى هنا .. النمل وقطعة السكر .!!
أحضرت له حنان كرسياً .. فشَق طريقه بشجاعة منقطعة النظير وسط صفوف النمل ووجد لنفسه مكاناً بالكاد يكفى للكرسى .. وجلس وعلى وجهه امارات اللامبالاه أو الإستهتار.. ولكنه استهتار محبب .. يضفى عليه طابعاً خاصاً ..
ثم أنه أخذ يجول بعينيه يتفرس فى الوجوه .. وبدا لى أنه يفكر فيما فكربت فيه تماماً عندما نظرت إلى تلك السحنات الكالحه المتناثره من حولنا ..ثم أنه توقف عند وجهى ...
ارتبكت ولم أعرف حقاً ما علىَّ فعله ..للحظة ..التقت عينانا ..فابتسمت فى تكلف .. فابتسم ..وكانت ابتسامته مميزه ..فقد كان يبتسم بزاوية فمه اليسرى ..
لم أطل النظر إليه .. ولكننى للحظات شعرت أنه يرمقنى ..ينظر إلىَّ –نظرات من تحت لتحت كده - .. وحينما كنت افاجأه وأنظر إليه فجأة وأجده ينظر إلىَّ .. كنت أبتسم أحياناً أو أبعد عينىَّ وكأن عينانا لم تلتق وكأن شيئاً لم يكن !!
كان الوقت يجرى بطيئاً كسلحفاة اشتركت فى ماراثون ..ولكنه رغم هذا مر وانقضى ..وحاء الوقت الذى قرر فيه حكيم الزمان أن يغلق شدقيه الناطقين بالحكم الأبديه .. وأن يتركنا فى حال سبيلنا - بعد ان لهف من كل واحد أربعين جنيه كده - ..وقفت صفوف النمل فى وقت واحد .. وأخذ كل واحد يجمع أوراقه وأشياءه المتناثره ..
وجدته ينظر إلىَّ .. فانهمكن بشده فى جمع أشيائى ..ولكنه اتجه نحوى وقال : "أى مساعده ؟؟ "
قالها وهو ينظر إلى كتبى وأشيائى المتناثره والتى تحتاج إلى ثمانى أذرع على الأقل لانتشالها وجمعها
"مفيش داعى ، هاتدبر أمرى يعنى "
قلتها أنا فى ارتباك واضح .. شكت لثوانٍ ثم قال
"أنا أحمد .. أحمد على "
هل يبغى التعرف علىَّ؟؟ .. هل يريد اتباع سياسة (المصاحبه) اللعينه معى ؟؟ ..أنا لا أريد هذا .. ولا أمقت شيئاً فى العالم قدر ما أمقت هذا
"عبير .. عبير عبد الرحمن "
وجدتنى أقولها رغماً عن الافكار التى دارت فى عقلى آنذاك
الغريب أنه ضحك وقال
"عبير عبد الرحمن ؟؟ .. ده اسم بطلة سلسلة فانتازيا .. فانتازيا دى سلسلة بتـ ... "
"أيوه أيوه .. عارفاها طبعاً .. انت بتقرأ الحاجات دى ؟؟ "
ضحك مجدداً وقال
"أنا بانام عليها !! "
غريب هذا .. للمرة الأولى أقابل فتى يقرأ .. بل ويقرأ فانتازيا ايضاً وليس مجلة ميكى
فى النهاية ..وجدتنى أخرج من باب شقة حنان معه .. أعرف أن ما أفعله ليس الصواب بالمره .. هذا ليس من شيمى ولا من أخلاقى .. ثم أنه لو أن أحداً من معارفى رآنى الآن لانتهى أمرى على الفور .. لو أن أحداً من عائلة أبى المتوفى بالذات رآنى .. سينتهزون هذا فرصةً ليأخذوننى من أمى التى سيتهمونها أمام المحكمه بافتقاد المسئوليه
ولكن –وهذا هو الغريب- كنت أشعر بارتياح .. وكأننى وجدت المكان الصحيح لى .. مشينا معاً وسط الحارات الحالكة ووسط الأطفال الذين يلعبون بكرة شراب فى سعادة غريبه ومثيرة للريبه
تكلمت انا فقلت
"أنا .. مش عارفه، بس ..  انا ماليش ف المواضيع دى !! "
نظر إلىَّ  فى حيره
"أى مواضيع ؟؟ "
فقلت فى قنوط
"المصاحبه .. بوى فريبند ، جيرل فريند .. أنا ماليش فى المواضيع دى خالص .. ودايما بابعد عن المواضيع دى على أد ما أقدر "
هز رأسه وكأنه يبعد فكرةً ما عن عقله وقال
"لا لا .. أنا ماليش فى الحاجات دى خالص يا .. يا عبير .. وكمان لو كنتى فاكرانى صايع بقى وغرقان ف الحشيش وبادخن زى محرقة الجثث فـأنا مش ... "
"بادخن زى محرقة الجثث ؟؟ .. التشبيه ده بتاع .. بتاع رفعت اسماعيل .. رفعت اسماعيل ده شخصيه خياليه .. بطل سلسلة ..."
"ما وراء الطبيعه .. عارف "
"وكمان بتقرأ ما وراء الطبيعه ؟؟ "
اومأ برأسه أن نعم
"انت .. انت أول ولد أعرفه ف حياتى ومايكونش ... "
"مايكونش ايه ؟؟ "
"مايكونش .. تافه "
مط شفتيه وقال
"وانتى أول بنت أشوفها ف حياتى وماتبقاش منغمسه ف الموضه "
"وانت عرفت منين انى مش منغمسه ف الموضه ؟؟ .. لبسى باين عليه كده ولا ايه ؟؟ "
"لا لا لا .. انتى لبسك تمام .. بس باين إنك .. يعنى .. ناضجه "
ضحكت للكلمة الأخيره .. ناضجه .. أين أنا من النضج ..
ثم ما هو االمقياس الحقيقى للنضج الحقيقى الذى يمكننى قياس مقدار نضجى عليه ؟؟ ..
 !! أنا مجرد طفلة يا فتى
الغريب أننى وجدتنى اسأله عن حياته
"احكيلى عن حياتك "
مط شفتيه مجدداً وقال فى امتعاض
"مفيش طتير ف حياتى "
سكت لثوانٍ وكأنه يتأمل ثم تابع
"بلاش نتكلم عن حياتنا . الحاجات من بعيد بيبقى شكلها أحلى وأجمل .. لما بتقربى منها بتكتشفى الجزء الوحش فيها "
يااااه .. يتحدث مثله تماماً ..رفعت إسماعيل
"قصدك ان تفاصيل حياتك مخجله مثلاً ؟؟ "
"لا لا ... بس .. الوضع هايبقى أحلى كده .. صدقينى "
(هايبقى أحلى) تشير إلى المستقبل .. هل يعنى ذلك أنه جاد وينوى أن يصنع قصة حب المراهقة الخاصه به معى ؟؟
ولكن الغريب أننى لم أعترض .. بل أومأت برأسى وابتسمت ..
ثم افترقنا وقال أنه سيرانى المرة القادمه .. ولم أعترض .. بل وافقت على الفور
ماذا دهانى ؟؟
عندما عدت للمنزل أدركت فى رعب أننى ..
 !! أننى أحبه
هل تصنع قصص الحب بهذه السهوله ؟؟ بهذه البساطه ؟؟
أحسست بإعصار من المشاعر المتناقضة بداخلى .. أولاً الكبرياء .. أنا .. عبير عبد الرحمن .. واقعة فى الحب من النظرة الأولى مع فتى لا أعرف عنه شيئاً إلا اسمه .. وقعت فى الحب بتلك الطريقة المباغتة المفاجئه ..
أنا عبير عبد الرحمن .. كنت دوماً سيدة قرارى ..
هل حقاً أحبه ؟؟
بيد أن كل هذه الأفكار ذهبت أدراج الرياح ..بهذه البساطه .. وحل محلها شعور طاغٍ غريب بالسعاده التى شعرت بها تسرى فى أعماقى وتجرى فى دمائى مجرى الدم ..
ووجدتنى أذهب إلى بيت حنان مرة أخرى فى نفس الميعاد ..وكان هو هناك .بملابسه (المبهدله) ونظرة الاستهتار فى عينيه وعلى وجهه .. أشعر وكأنه ينتمى بشكل ما للعالم الذى أنتمى أنا إليه وجئت منه ..بعيداً عن الماديه .. بعيداً عن قواعد عالمنا السخيفه التى تقتل الخيال قتلاً ..
تلك المسحة الجميله من الشفافيه على وجهه .. وكأن ملامحه تصرخ قائلة
"هأنذا أيها العالم .. أبتعد عن ماديتك اللعينه .. فلترنى ما لديك أيها العالم .. أو لتفسح لى المجال !! "
كان اسمه أحمد على .. وكنت واقعة فى حبه .. واقعة فى حبه تماماً
انتهى الدرس ..فخرجنا سوياً من بيت حنان ..ومشينا معاً مرة أخرى فى الطرقات .. هو لا يعلم أين سنذهب .. أنا لا أعلم أين سنذهب .. ولكننا بالرغم من هذا كنا نمشى وكفى
مررنا بجانب كشك لبيع الزهور .. فوجدته يخرج نقوداً من جيبه ويشترى الكثير من الورود الصفراء ..ويعود بها إلىَّ
"صفرا ؟؟ .. انت كده بتخرق القواعد .. كل الورد فى قصص الحب بيبقى أحمر "
"وليه نلتزم بالقواعد ؟؟ .. الأحسن أننا نرتجل ونتصرف بنفسنا "
لا أعرف متى ولا كيف وجدنا نفسينا نمشى بجانب النيل .. الكورنيش
المكان الأبدى للعشاق .. حتى اصطلحوا على تسميته بـ (ملتقى العشاق) ..
احنا كده بننفذ نفس خطوات قصص الحب بالظبط .. ورد .. كورنيش .. ناقص بقى الذرة والترمس "
"آه .. كنت هانسى "
ووجدته يجرى نحو بائع الذره ويشترى كوزين .. ويعرج على بائع الترمس ويشترى كيسين
كان بائع الذره ينظر إلينا ويرمقنا فى فهم – أم فى خبث ؟؟- .. وبجانبه كان المذياع القديم يخرج منه صوت أم كلثوم الشجى تغنى (انت عمرى)
فمد البائع يده المعروقة إلى المذياع ورفع الصوت وهو ينظر إلينا نظرة معينه بما معنى : "أى خدمه .. مفي داعى للشكر .. ذرة وأم كلثوم ومفيش أحلى من كده .. استمتعوا !! "
كان أحمد ينظر للبائع الذى كان يحدجنا بدوره بنظراته .. ويبدو أن أحمد قد فهم مغزى نظراته أيضاً .. بيَد أنه رفع عينيه عن البائع فجأة ونظر إلىَّ .. ثم انطلق يضحك ..فضحكت أنا ايضاً .. الإشاره انطلقت من عقله إلى عقلى والعكس .. فكرنا فى نفس الشئ فى نفس الوقت .. الموقف ليس مضحكاً لهذه الدرجه .. فكل بائعى الذره هكذا .. ولكن نظرات بائع الذره مع هواء النيل ورائحة السمك مع مذاق الترمس المالح مع رائحة الذره المشويه مع الشعور بأن هناك شخص معك يعرف تماماً فيما تفكر ..كل هذا جعلنا نضحك بشده
ضحكنا كثيراً حتى أدمعت عينانا .. ثم استكملنا المشى .. كان هو ما زال يحمل ذلك الورد الأصفر .. يضعه بين طيات سترته .. فوجدته يضع كوز الذره وكيس الترمس جانباً على السور .. ويُخرج الورد ويعطينى بعضاً منه .. ثم مشى أمامى يوزع الورد على الناس !!
فى موقفٍ كهذا .. كانت أى فتاة ستصرخ فى وجهه تتهمه بالجنون وبأنه (غير روش) وأنه مثال عظيم للشاب (السيس) وأنه لا يجيد فن الرومانسيه –ذلك الفن السخيف الذى ليست له مقاييس محدده -  ..ولكنى لم أشعر لحظة بتلك الأفكار تجول فى خاطرى البته .. بل وجدتنى أمسك الورد الذى أعطانيه وأشاركه ما يفعله ..
وردة لبائع الذره –الذى يفهم هذه الأمور- .. وورده لبائع الترمس .. وردتين لهذين العاشقين الذين يغترفان من عبق النيل .. وورده لبائعة المناديل العجوز
هكذا ..وبعد عشر دقائق ..أصبحت أذرعنا خالية من الورود .إلا من وردتين .. واحدة معه .. وواحدة معى
"الورد ده ريحته غريبه !! "
قالها وهو يضع الورده بالقرب من أنفه
شممت الورده فكانت لها رائحة غريبه ..كرائحة أعشاش العصافير ممكن .. أو كرائحة القطران حتى !!
"مش كل الورد ريحته حلوه "
"غريب .. وانا صغير .. كنت فاكر كل الورد ريحته أجمل ريحه فى الوجود .. وان ريحة عباد الشمس زى ريحة البرفان !!"
ضحكت ثم قلت : " مش مهم الريحه ..الورد عاجبنى "
"بس لو كانوا بيبيعوا ريحان ..كان هايبقى أحسن وأحلى "
"بتحب الريحان ؟؟"
"جداً "
سكت قليلاً وكأنه يفكر فى شئ ما .. ثم قال
"الريحان مش بيمتاز بشكل الورد .. بس ليه أجمل ريحه .. بالنسبه للورد فالعكس الصحيح "
قلت أنا معترضه : "بس مش كل الورد مالهوش ريحه .. التيوليب ..السوسن ..الورد الأحمر..كل دول ليهم ريحه جميله جداً  "
"عشان كده كل الناس بتشتريهم .. ده ورد محظوظ جداً .. عنده ريحه وعنده شكل ..بس ايه ذنب الورد اللى مالهوش ريحه أو الريحان اللى مالهوش شكل ؟؟ "
ثم أخذنا نتناقش حول الورود ونطبق هذا على الناس
هو يرى أن الفتيات الجميلات ذوات الـ ( الشعر السايح والعطر الفايح) والمنغمسات حتى الأذنين فى الموضه .والمهتمات بالممثل (فلان ابن علان) أكثر من اهتمامهن بصلاة الظهر مثلاً ..الفتيات اللاتنى تساوى مدة تركيزهن مدة تركيز سنجاب ,,يرى أنهن ورود صفراء بلا رائحه لها شكل يخلب الألباب ..ولكنها بلا رائحه .. يرى أن أمثالهن قشره بلا روح .. وجه جميل لا أكثر .. خاويات على عروشهن من الداخل
يرى الريحان ذى الرائحة الرائعة .أناس لم يوافهم الحظ فى نسبة الجمال ..ولكن عقولهم تزن بلداً ..
يرى أنها حكمة إلهية ما ..
"خدى عندِك سقراط مثلاً .. الدمامه تمشى على قدمين .. بس عقله ... "
وجدتنى اسأله : "وبالنسبه يعنى للورد الجميل اللى ليه ريحه ؟؟ "
قال وهو يمط شفتيه : " ده ورد الناجح المحظوظ أوى .. بس هاتلاحظى إن الورد ده بيذبل بسرعه جداً .. الورد ده كبرياؤه هى أهم حاجه عنده .. كبرياؤه هى اللى بتعلو بيه .. وكبرياؤه هى اللى بتقضى عليه !! "
"يعنى مفيش ورد متكامل ؟؟"
سكت لثوانٍ ثم قال : " انتى ورده متكامله !! "
فاجأنى بقولها .. فى هذه الحالات لا أعرف حقاً ما علىَّ قوله أو فعله فعلاً
"لازم أقوللك انى عمرى ما شفت أى ولد فى سننا دى وبيتكلم بالطريقه دى!!"
"أى طريقة ؟؟"
"طريقه ... عميقه يعنى "
رفع حاجبيه ..وابتسم ..
مشينا فى صمت لفترة .. ولكننا كنا نشعر الشعور ذاته ..
رائحة النيل ..رائحة الترمس .. رائحة الذره .. رائحة الورود وافرة الحظ
مثل هذه الأشياء الصغيره البسيطه ..تجعلنا نريد أن نتمرغ فى الأرض ونحسد دودة الأرض على حياتها ..تجعلنا نريد أن نخرج من جسدينا لنصير روحين ونطير إلى الأبد فى السماء وبين الأثير .. تجعلنا نريد الجرى إلى اللا شئ واللا هدف ..
"للأبد ؟؟ "
"ايه ؟؟"
"عارف ماجى ؟؟ .. حبيبة رفعت اسماعيل .. ماجى ماكيلوب ؟؟"
"طبعاً"
واستنتج هو الباقى قبل أن أقوله حتى أو يخرج من على طرف لسانى
"عارف الجُمَل اللى على طول بيقولوها لبعض ..عهد النجوم والـ ... "
ولكنه قاطعنى مستكملاً للسؤال الذى سألته إياه فى البدايه .
"للأبد ماذا ؟؟ "
ابتسمت وقلت : "أستظل تحبنى للأبد ؟؟"
فقال : "وحتى تحتىق النجوم .. وحتى تجف المحيطات ..وحتى ....."
وهنا وقع كيس الترمس من يده فلم يستكمل الجمله .. التقطه من على الأرض ..وشرع يضحك .. ولا شعورياً ..رحت أضحك أنا ايضاً ..
"دايماً بتحصل حاجه تقطع الجمله مع رفعت وماجى "
"وحتى لو ماحصلتش حاجه تقطع الجمله .. رفعت مش بيلاقى حاجه يقولها بعد (وحتى تجف المحيطات) .. تكملة الجمله متروكة لخيالك بقى "
توقفنا عن الضحك أخيراً ..واكتشفت أننى تأخرت ..وافترقنا ثانية مع وعد باللقاء مرة أخرى
بعدها التقينا كثيراً ..مرات عديده بعد المراجعة عند حنان .. ذهبنا لأماكن عدة .. آخر لقاء بيننا كان منذ يومين تقريباً ..ذهبنا إلى سور الأزبكيه .. وابتعنا كتباً بالجمله ..ابتاع هو كتب نجيب محفوظ كلها تقريباً ..كانت تُباع بالكيلو !!
أما انا فابتعت بعض كتب (جبران) و(بلال فضل) .. واكتشفت فى سعادة أن القراءة عالم ساحر يجمع بيننا نحن الإثنين ..وأثناء جولتنا فى سور الأزبكيه ..وقعت عينانا على عدد من سلسلة (ما وراء الطبيعه) ..كان بعنوان (أسطورتها) وهو يتحدث بالكامل عن (ماجى) حبيبة رفعت إسماعيل ..حيث تكرر فى هذا العدد بالذات عهد النجوم أكثر من عشر مرات تقريباً .. ابتعناه على الفور ونحن نضحك  مع أننا قرأناه مرات عديدة قبلاً ..
-للأبد؟؟
-للأبد ماذا ؟؟
-أستظل تحبنى للأبد؟؟
-وحتى تحترق النجوم .. وحتى تجف المحيطات .وحتى .....
وهنا طالبنا بائع الكتب بدفع ثمن القصه وإلا سيقاضينا نحن الإثنين أمام محكمة الجنايات !!
فانفجرنا من الضحك .. والبائع ينظر إلينا ويضرب كفاً بكف .. ويضع يده بجانب رأسه ويكورها ويحركها بطريقة معينه (علامة الجنون) ..
كان ذلك اليوم هو أفضل يوم شهدته فى حياتى القصيرة تلك على الإطلاق ..أفضل لقاء لنا ..
بالنسبة إلينا ..ليس هناك ما هو أجمل من اللقاء بين الكتب !!
وقبل أن نفترق .. أعطانى مظروفاً صغيراً مكتنزاً بعض الشئ .. وقال :
"ماتفحيهوش دلوقتى .. انتى هاتعرفى الوقت المناسب لفتحه .. يا رب يعجبك اللى جواه "
"رساله ؟؟ .. بس ليه ؟؟ "
"انا لقيت روحى على الورق وفى الكتب ومع القلم يا عبير .. وانتى كمان ..صح ؟؟"
"طبعاً "
"خلاص .. يبقى الورق أسهل وسيله للتعبير ..واوعدينى انك مش هاتفتحيه دلوقتى"
"طيب اوعدك .. بس ازاى اعرف ان الوقت المناسب جه ؟؟"
ابتسم وقال :" انتى هاتعرفى .. انتى عبير !!"
وافترقنا ..وعُدت للمنزل ومعى المظروف ذى المحتوى المجهول ..
بعدها بخمسة أيام .. جاء موعد الحصة عند حنان ..
ثم دخل هو ..
غريب
كأن شئ ما قد تغير فى ملامحه
ولكن ...
نفس العينين .. نفس الأنف .. نفس الفم ..
ولكن شئ ما قد أصاب روحه ..وقد أكد لى هذا صدق مقولة (الجمال جمال الروح) ..شئ ما قد أصاب روحه الثائرة التى همت بها حباً ..ثم وبدون سابق إنذار ..تهاوى أحمد على ارض شقة حنان مغشياً عليه وقد اكتسى وجهه بلون أزرق مخيف !!
لم أستطع الإطمئنان عليه من الجموع التى احتشدت حوله فجأة .. وقام حكيم الزمان من مكانه وقد تظاهر بأنه يعرف ما يجب عمله ...
أمر الفتيان بأن يحضروا كرسياً  ويتعاونوا على إجلاسه .. ويا له من غباء ..
أفضل طريقة للتعامل مع فاقد الوعى هى بابقائه مستلقياً فى وضع النوم . ولكن من سيستمع إلى آراء مراهقة غريره ؟؟ .. وما الذى ستساويه آراءى بجانب آراء حكيم الزمان .. والغريب أن أحمد لم يفق رغم محاولات أم حنان ومحاولات حكيم الزمان .. وشعرت حينها ان احمد فأر تحارب يجربون عليه كافة الوصفات المنزلية الغبية اللعينه ..وكل واحد يحاول إثبات براعته فى تحضير الوصفات عليه هو !!
فى النهاية جاءت عربة الإسعاف .. وتفرق الحشد .. ونزلت للشارع بعينين دامعتين أراقب عربة الإسعاف وهى تبتعد ومعها قلبى ..
عدت للمنزل فى هذا اليوم .. وأنا أشعر ان جزءاً مهماً من روحى وقد تم انتزاعه منى ..يا له من احساس ..
لا أعرف أين هو الآن .. أو فى اى مستشفى هو .. هل هو بخير ؟ ..ماذا يفعل الآن ؟ .. لا أعرف عنه اى شئ على الإطلاق ..
واكتشفت فى جهشة أنه لو أُلغيت الحصة عند حنان فى مرة من المرات ..قلما كنا سنستطيع اللقاء .. لقاؤنا يعتمد على الحصه عند حنان . فنحن لا نعرف عن بعضنا البعض أى شئ .. لا أعرف عنه سوى اسمه وسوى أنه يحبنى وأننى أحبه .. وأنه الجزء الثانى من روحى .. الجزء الذى لطالما كان مفقوداً ..
أيتها الروح الثائرة .. ماذا حَل بك؟؟ .. ماذا أصابك؟؟
فى نفس الموعد ..ذهبت إلى منزل حنان والقلق يعتصرنى ..هل سيأتى ؟
ولكنه لم يأت !!
بعد أربعة أيام.. عرفت أن (أحمد على) قد أسلم الروح !!
عرفت الخبر من حنان .. كانت تتكلم عنه على أنه (الواد المُز أبو عيون بنيه ده) ..فى البدايه لم أصدقها .. ولكنى عندما سمعت حكيم الزمان يقول :"عرفنا كلنا الخبر يا جماعه .. فقدنا زميل عزيز .. أحمد عادل و...."
فقال واحد من حشود النمل : "أحمد على يا مستر"
فنظر إليه حكيم الزمان شذراً نظرة معناها : "وإن يكن .. لقد مات وانتهينا"
"نسألكم الدعاء له .. ونسأل الله أن يرحمه ويغفر له ..ودلوقتى بقى طلعوا كتب الرياضه .وافتحوا صفحة ..."
بعد هذه الكلمة ..لم أشعر بأى شئ على الإطلاق ..لم أشعر بنفسى إلا وعندما شممت رائحة النشادر المقبضه .. وشعرت بالأنفاس الحاره تلفح وجهى .. وسمعت الثرثره
"هى كويسه ؟؟ "
"هو ايه اللى حصل ؟؟"
"هو احنا ناقصين ؟؟ .. هى كمان ؟؟ "
وعندما فتحت عينىَّ .. كان أول ما تراءى لى هو وجه حنان العزيزة ..ومن حولها كانت حشود النمل تمد رؤؤسها فى فضول ..
كنت مستلقية على أريكة ما فى بيت حنان .. وقد اكتشفت للتو أننى كنت فاقدة للوعى لمدة لا تقل عن ثلث الساعه ..لماذا وضعونى أنا فى وضع الإستلقاء ووضعوه هو فى وضع الجلوس .. لماذا ؟؟
إنه غباء الجماهير .. تباً لغباء الجماهير ..
تباً للجموع ..
يا له من ببغاء ..عقله فى أذنيه ..
وجهى مبتل للغايه ..
دموع ...
إننى أبكى !!
اتمنى فقط ان تتفرق تلك الحشود المزعجه لأن الرائحة أصبحت لا تطاق بحق .. إننى ...
أتمنى ...
بيَد أننى لم أشعر بأى شئ للمرة الثانيه ..
اختفى الماضى .. وذاب الحاضر .. ولم يعد هناك مستقبل
وذهبت إلى ذلك العالم الذى يذهب إليه فاقدى الوعى جميعاً
وأثناء غيبوبتى ..ظننت أننى أرى وجهه !!
ظهر لى وجهه فجأة .. ثم أفقت مرة أخرى ..
هذه المرة لم أكن فى بيت حنان ..
كان مكاناً أبيض بشده .. اللون الأبيض كما يجب له أن يكون ..
وكأنه مهرجان للون الأبيض فقط ..
لست ميته لو جال هذا بخاطرك ..ولم أفهم لحظة الناس الذين يصفون الموت بأنه مكان أبيض تجد نفسك فيه ..
أنا فقط فى مستشفى ما ..كانت حنان بجوارى ..
قضيت فى المستشفى يومين .. وبعدها خرجت وعدت للمنزل ..قضت حنان العزيزة اليوم معى .. كانت تحاول أن تخرج منى المعلومات .ولكنى لم أصارحها بشئ ..فقط سألتها :
"طب ليه ؟؟ ..وازاى ؟؟! "
فهمت مغزى سؤالى ..تنهدت وقالت :
"كان عنده مرض كده ..سمعت ماما بتنطق اسمه بالإنجليزى ..بس هو بالعربى يعنى .. يعنى سرطان دم !! "
لا شعورياً تمتمت :
"سرطان دم ؟؟ ..لوكيميا !! "
"أيوه .. ايوه ..هى دى الكلمة دى ..كاليميا دى .. واضع يعنى من اللى ماما عرفته أنه كان عنده المرض ده من 4 سنين ..كان عارف بيموت خلاص .. الدكاترة رجحوا ان ادامه أقل من سنة كحد أقصى !! "
"أقل من سنة ؟؟! "
عادت حنان لمنزلها فى التاسعة مساءاً .. أما أنا فجلست على السرير لا ألوى على شئ !!
ثم تذكرت .. المظروف ... لقد قال لى أن أفتحه فى الوقت المناسب ..لو لم يكن هذا هو الوقت المناسب ..فأظن أن كلمة (مناسب) لا تعنى شيئاً على الإطلاق !!
أحضرت المظروف وفتحته ..
أولاً : كان بداخله الوردة الصفراء من جولتنا على كورنيش النيل ...
ثانياً : كان العدد (أسطورتها) من ما وراء الطبيعة !!
وضعت كل هذا بجانبى ثم كان أن (ثالثاً)
ثالثاً : ورقة فلوسكاب صغيرة مطوية .. فضضت الورقة فى لهفة وبدأت أقرأ ...

عبير ...

أظن أن هذا هو (الوقت المناسب ) فعلاً .. عرفت أنك ستعرفين متى ستفتحينه .. انتِ بخير؟؟ ..اتمنى ذلك ..
بما أنك تقرأين هذا الكلام ..فأظن أننى قد ذهبت !!
لا تحزنى ، ولا تغضبى .. لم اشأ إخبارك .. لقد جعلت آخر أيام حياتى أفضل أيام حياتى ..
وانت تتعرفين أكثر مما أعرف أنا ..أنه ليس معنى أن جسدى إذ ذهب أن روحى قد تلاشت أيضاً .. لا ..
إن روحى على الورق .. فى الكتب ..مع القلم ..
إن روحى معك أنتِ مثلما كان قلبى ..
لم أتوقع يوماً أن يصدر منى أنا مثل هذا الكلام الذى فى موقف آخر كنت سأراه مبتذلاً سخيفاً !!
تمنيت ألا يكونوا قد اخترعوا التليفزيون ..التمثيليات ..الأفلام .. لكى نعرف ..هل ما نشعر به حقيقى .. أم أننا فقط نفعل مثلما نرى على التلفاز .. نمثل سيناريو غير مكتوب ..
ولكن لا ، كل لحظة كانت حقيقية جداً .. بل أننا لم نكن نحتاج إلى كلمة (أحبك) ..تلك الكلمة التى أصبحت قطعة لادن فى فم كل من هَب ودَب .. بل كانت هذه الكلمة تنتقل كاملة المعانى بين روحينا ...
ويا لها من سخرية عظمى هى أن تكون نهايتى على يد مرض من الأمراض التى كان (رفعت إسماعيل) يحاربها .. سرطان الدم –كما أظن أنهم أخبروكِ-
ولكنك يا ماجى ما زلت حية ..واتساءل الآن .. أما زلتِ على عهدك ؟؟!
ثم كتب تحت هذه الكلمات عهد النجوم ..وهذه المرة كان هو الذى يسألنى :
-للأبد ؟؟!
ثم ترك تحتها فراغاً .. فوجدتنى أقول :
-للأبد ماذا ؟؟!
فكتب :
-أستظلين تحبيننى للأبد ؟؟!
وترك فراغاً تحتها .. فقلت بسرعة :
-وحتى تحترق النجوم .. وحتى تجف المحيطات .. وحتى ...
وهنا انفجرت فى البكاء !!
..
جيش النمل وقطعة السكر/ شعر ثاشر/ ملابس مبهدلة/ محرقة جثث/ انت بتقرأ الحاجات دى ؟ / أنا بانام عليها/ وكمان بتقرأ ما وراء الطبيعة ؟/ مايكونش ايه / مايكونش تافه : يعنى ..انتى ناضجة/ الحاجات من بعيد شكلها أحلى / نظرة استهتار / ورد اصفر / بائع الذرة يفهم هذه الأمور/ وردة لكل واحد/ريحتها غريبة/عباد الشمس ريحته مش برفان/انت عمرى/لو كان فى ريحان / بتحب الريحان؟ / جداً / ورد محظوظ/ورد سريع الذبلان/انتى وردة متكاملة/طريقة ..عميقة يعنى/ماجى/رفعت/وهنا وقع كيس الترمس/سور الأزبكية/أسطورتها/ بائع الكتب/محكمة الجنايات/انتى هاتعرفى .. انتى عبير !!
مرت ذكرياتنا كلها أمام عينى ..لن تعود هذه الأوقات ثانية .. لقد كانت ..ولكن لا أحد سيجعلنى أصدق أنها ستعود !!
وبكيت أياماً لم نعشها .. وبكيت أشياءاً لم نراها سوياً !!
للحظات شعرت أن (1=1+1) فعلاً ..بكيت كثيراً ..
ولم أشعر بنفسى عندما تهاوت رأسى على الوسادة ونمت ..
كان اسمه (أحمد على) وسأظل أذكره للأبد !!
ورأيته حينها .. كنت أعرف أنه سيأتى ..بل كنت انتظره ..
كان يقول لى وابتسامة رائعة بزاوية الفم اليسرى مرتسمة على وجهه :
"للأبد ؟؟! "
فقلت : للأبد ماذا؟؟!"
"أستظلين تذكريننى للأبد؟؟! "
كان صوته يبتعد شيئاً فشيئاً ...
"آه وربنا ، وحتى تحترق النجوم .. وحتى تجف المحيطات .. وحتى ...."
وهنا أسدلت الحياة ستائرها على مسرح اليوم .. استعداداً لمسرحية جديدة بالكامل ..
 مسرحية بإسم (الغد) !!  
..
رانيا فهمى
2012